إيدير… سفير الأغنية القبائلية

إيدير ليس فنانا كأيها الفنانين. إنه ليس مجرد مغن سعى نحو الشهرة والانتشار والمال. بل هو ذلك الفنان الملتزم، المناضل،  صاحب قضية اختار أن يدافع عنها بسلاح الموسيقى والفن والغناء. 

لا يذكر اسم إيدير إلا مقترنًا برائعته “أفافا ينوفا”، الأغنية التي تحكي قصة أسطورية، تشبه قصة “ليلى والذئب” الموجودة في العديد من الثقافات، والتي ترمز إلى المعاناة والخوف والظلم والقهر والطمع. وهي القصة التي أثرت في ذاكرة الطفل إيدير ورافقته في مختلف مراحل طفولته وشبابه، وصنعت مجده وشهرته، بعد أن لحنها واشترك مع الشاعر محمد بن حمدوش في كتابة كلماتها وإضافة مقطعين إلى القصة الأصلية، ووظف فيها آلات موسيقية عصرية، إلى جانب الآلات التراثية التقليدية، مثل الناي و”القصبة”، واستطاع أن يدخل بها قلوب الجمهور من مختلف أنحاء العالم، الذي انبهر بموسيقاها ولحنها الحزين، حتى ولو لم يفهم كلماتها. 

لم يكن إيدير، الاسم الفني لحميد شريت، والمشتق من الحياة ومن الجذور، يعتقد أنه سيصبح فنانا في يوم من الأيام، هو الذي نشأ في كنف عائلة متواضعة يعولها والد يرعى الغنم في قرية بني يني المهمشة بمنطقة القبايل الجزائرية. فقد كان الصبي إيدير، رغم حبه للموسيقى، يدرس الجيولوجيا ويطمح إلى الالتحاق بإحدى شركات النفط من أجل العمل فيها، لولا الصدفة التي قادته إلى تعويض إحدى المغنيات في فقرة فنية بالإذاعة الجزائرية، باقتراح من أحد الأصدقاء الذي سبق وسمع غناه وأعجب بعزفه. 

بعد هذه التجربة، سيقرر إيدير، الذي اختار هذا الاسم الفني لكي لا يتعرف عليه والده الذي كان يعارض توجهه نحو الغناء، (سيقرر) تسجيل “بابا ينوفا”، سنة 1973، قبل أن يلتحق بالخدمة العسكرية، لتشتهر الأغنية بعدها وتصبح محط اهتمام العديد من شركات الإنتاج العالمية، من بينها “باطي ماركوني”، التي سجل معها الفنان القبائلي أول ألبوماته، بعد رحيله إلى فرنسا سنة 1975. 

 عشق إيدير الموسيقى والغناء منذ صغره. كان معجبا بالأهازيج الشعبية التي كانت تؤديها نساء قريته وتردد صداها جبال جرجرة، مسقط رأسه في منطقة تيزي وزو، ومنهن جدته ووالدته، اللتان تأثر كثيرا بحكاياتهما الأسطورية الشعبية وبالشعر الذي كانتا تلقيانه على مسامعه، لذلك كان حضور المرأة قويا في أعماله وأغانيه بعد ذلك، ومثله كانت ثقافته وهويته التي لم يتخل عنها يوما، رغم سنوات الغربة والبعد، ورغم انتشار اسمه خارج حدود وطنه. 

ورغم انفتاحه على الموسيقى العصرية مثل “البوب” و”الجاز” و”الروك”، ظل إيدير متشبثًا بالفلكلور والتراث القبائلي الجزائري الذي كان واضحا في أعماله ومؤلفاته الموسيقية، سواء التي أصدرها وحده، أو جمعته مع فنانين آخرين من الجزائر وفرنسا، مثل أغنيته “زويت رويت” مع نجم الراي خالد أو “أزواو” مع مامي أو “ثغري بوغذوذ” مع أمازيغ كاتب. 

لم يكن إيدير من الفنانين المهادنين للسلطة. وعرف عنه مواقفه السياسية المثيرة للجدل. فقد كان من أشد المدافعين عن الهوية الأمازيغية والمطالبين بترسيم اللغة الأمازيغية لغة رسمية في البلاد إلى جانب العربية، وظل رافضا لإقامة حفلات أو سهرات بالجزائر إلى أن تم الاعتراف بها سنة 2017. كما كان من أشد المعارضين لنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ومن الداعمين للحراك في الجزائر. 

لم يتخل إيدير، مثلما يحكي أصدقاؤه والمقربون منه، في العديد من التصريحات الإعلامية، عن تواضعه، رغم شهرته. كان يتمتع بدماثة الخلق. كما كان خجولا وبسيطا وشديد التحفظ.

لم يكن إيدير غزير الإنتاج. وعرف مساره الفني جمودا لسنوات. كما لم يترك في جعبته الكثير من الألبومات. لكن أعماله التي تغنت بالحب والمنفى والحرية، ومواقفه لصالح المرأة والمستضعفين والمظلومين، ستخلد اسمه في سجلات التاريخ. 

توفي إيدير نهاية الأسبوع الماضي، عن عمر ناهز السبعين سنة، بسبب مرض في الرئة، قطع أنفاسه للمرة الأخيرة، لكنه سيظل حيا في قلوب ووجدان محبيه وعشاق أغانيه وفنه، إلى ما لا نهاية، وسيتذكره التاريخ وتأتي على ذكره الأجيال المتعاقبة، لأن الذي أبدع لم يمت. 

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*