في كل مرة تصر الحاجة الحمداوية أن تنبعث من رماد السنين، وتقول للجميع ماا زلت بينكم باسم الحب الذي تغمرونني به. بهذا الحب كانت أيقونة الطرب الشعبي المغربي تقاوم رضّات الزمن الذي لم يستطع أن ينال من عفويتها وروحها المرحة ولا من صوتها الصافي القابل للتشكل في كل صورة غنائية.
وقليلون من يعرفون أن الحمداوية سبق لها أن غنت ألوانا طربية أخرى غير اللون الشعبي منها أغان باللهجة التونسية بل وحتى اللبنانية إذ سبق لها أن سجلت في شبابها أغنية “دخل عيونك حاكينا” لنجاح سلام، ولكم أن تتخيلوا، أو أن تسمعوا إن استطعتم الوصول إلى هذا التسجيل سبيلا، الذي أدته الحمداوية باقتدار وتمكن لا يتأتى إلا لمن تجري الدماء في عروقه على وقع موسيقي موزون.
لكن جسد “الحاجّة” تلقى ضربات الزمن بدلا عن الروح والصوت، فلم تكن لتخرج من أزمة صحية إلا لتقع في أخرى، آخرها قبل أيام حين أقعدها المرض مجددا ودخلت مرحلة حرجة، جعلت قلوب محبيها تخفق وجلا على صحة “الحاجة” التي ألفها الجميع مرحة بيننا، وعاشقة للحياة التي تحياها بروح الشباب، متمنين لها أن تكون هذه الوعكة عابرة كسابقاتها.
“الحاجة الحمداوية” واسمها الحقيقي “الحجاجية” بكل ما يحيل هذا الاسم على الأصول “المزابية” لهذه الفنانة الاستثنائية، رأت النور قبل ثمانين سنة بدرب الكرلوطي بدرب السلطان، وهو الركن من هذا الحي العريق، الذي ترعرعت فيه مجموعة من الأسماء الشهيرة مثل اللاعب الدولي السابق مصطفى شكري الشهير ب”بيتشو” وعبد العظيم الشناوي والزعري والداسوكين ونعيمة المشرقي وغيرهم.
ووسط هذا المجال الشعبي، وفي هذه الرقعة التي بدأت في التشكل منذ بداية الثلاثينات، بعد اكتمال حي الأحباس خلال العشرينات، ولم يكن يفصل بينهما سوى السكة الحديدية للقطار، ترعرعت “الحجاجية” في درب السلطان الذي سيشكل مصدر إزعاج للسلطات الفرنسية التي كانت تطارد تنامي الوعي الوطني وتناسل خلايا المقاومة بين ثنايا أزقته ودروبه.
وكان طبيعيا أن تتأثر “الحمداوية” بهذه الأجواء التي يختلط فيها الحماس الوطني بالرغبة في الانتقام من رموز الاستعمار من خونة ومعمرين، كما تأثرت في المقابل بالأنماط الغنائية السائدة آنذاك، وجلها تراثي يندرج ضمن العيطة بكل أصنافها التي بدأت في الانتشار مع ظهور “الفونوغراف” بأصوات “الشيخات” الرائدة في ذلك الوقت.
لكن “الحمداوية” لم تكن ترغب في مواصلة السير على المنوال نفسه لمن سبقها من مؤديات العيطة، بل اختارت تطوير هذا الفن، وتقديمه في صورة مغايرة ومخففة.
ومن الطريف يذكر أن أولى المحاولات الغنائية للحمداوية بأغنية عصرية من ألحان المبدع الراحل أحمد البورزكي، كما احتكت عن قرب بالتجربة الغنائية والتمثيلية لفرقة بوشعيب البيضاوي، فتمكنت من اقتحام مجال الغناء من أوسع أبوابه، بقطع خاصة بها أو أخرى مقلدة، من أشهرها القطعة الغنائية التي أثارت حفيظة سلطات الحماية، وفيها سخرت الحمداوية من السلطان بن عرفة الذي نصب بديلا عن محمد الخامس بعد نفي الأخير، وفيها تقول “فمك مهدوم.. وخوك خدام ليهم.. كدم
تعاملت الحاجة الحمداوية في مسارها الفني مع العديد من نجوم الغناء على رأسهم الفنان الباذخ سليم الهلالي الذي اشتغلت إلى جانبه سنوات عديدة، كما سجلت رفقة الأخوين بوطبول العديد من القطع المشتركة، فضلا عن مصادقتها لنجوم الغناء العربي أمثال وردة الجزائرية وعبد الحليم حافظ وغيرهما.
وتميز أسلوب الحمداوية في الغناء بعدم استقرارها على نمط واحد، إذ قامت بأول محاولة لتقديم العيطة بمرافقة فرقة موسيقية عصرية كما هو الشأن بالنسبة إلى أغنيتها الشهيرة “منين أنا ومنين انت” كما أعادت غناء بعض قطع الحسين السلاوي وقطع أخرى تراثية فضلا عن أغانيها الخاصة، التي أعات توزيعها قبل سنوات بتوزيع جديد ضمن لها استمرارا وحضورا وسط الجيل الحالي والأجيال اللاحقة.
قم بكتابة اول تعليق