اليهود يحييون طقوسهم بكل اطمئنان

عتبر أمين الكوهن، باحث مختص في تاريخ يهود المغرب، أن المشاكل التي تعرض لها اليهود بالمغرب، كانت محلية أو وقعت في بعض اللحظات التاريخية الحرجة، لكن إخراجها من سياق التاريخ المغربي هو الذي يجعل منها مأساوية.ويشير، في الحوار التالي، إلى أنه على طول تاريخ المغرب، كانت الحماية الرسمية للعبادة، كما كانت لكثير من الفقهاء مواقف مشرفة حول حماية اليهود.

الحوار سبق أن صدر في جريدة “الصباح” المغربية:

هل اليهود فعلا أقلية خارج الجدل بحكم وجودهم في المغرب منذ القديم؟
  أعتبر أن قدم الاستقرار لم يكن امتيازا لا لليهود ولا لغيرهم، إذ أن للتطور التاريخي منطقه الخاص، لكن هذا لا يعفي من ذكر لحظات توتر عرفها يهود المغرب، سواء في عهد الموحدين عندما نزعت الدولة عن يهودها الحماية، ثم حدثت ثورة عامة من سكان فاس على يهودها سنة 674 ه،  أو في نهاية عهد المرينيين.   
لدينا شهادات تاريخية متعددة عن المشاكل التي تعرض لها اليهود في بعض المناطق لا نجد لها صدى في جهات أخرى، بما يعني أنها مشاكل محلية، أو وقعت في بعض اللحظات التاريخية الحرجة، لكن إخراجها من سياق التاريخ المغربي هو الذي يجعل منها مأساوية.  

هل يمارس اليهود عباداتهم بحرية وبدون تضييق في بلد دينه الرسمي الإسلام؟
 (يضحك) من من المغاربة لم يتعرض للتضييق؟ فقد تعرضت بعض الزوايا والرباطات والصلحاء لأكثر من التضييق. فإما أن اليهود مغاربة وتسري عليهم سنن تاريخ المغرب، أو هم فوق التاريخ. لنعد إلى حدث وقع نهاية القرن 15، بطله الفقيه المغيلي، الذي أصدر فتوى بهدم معابد اليهود، أثارت لغطا بين فقهاء تلك الفترة، وانقسموا بشأنها، لكن السلطان محمد الشيخ الوطاسي حسم الأمر وبسط حمايته عليهم، ولم يصب أي كنيس بـأذى. في عهد المرابطين أيضا خرج فقيه أندلسي بحديث مرفوع إلى النبي، فتصدى له يوسف بن تاشفين وقضاته… وعلى طول تاريخ المغرب كانت الحماية الرسمية للعبادة. كما كانت لكثير من الفقهاء مواقف مشرفة في الجدل الفقهي حول حماية اليهود. وكثيرا ما كانت هذه الجدالات نخبوية، ولم ينخرط فيها المجتمع.
واليوم، يمكن الجلوس في أي مقهى بشارع آنفا صباح يوم سبت، لرؤية اليهود متجهين إلى بيعاتهم، وهم في كامل أناقتهم واطمئنانهم. كما أنهم يحيون طقوسهم ويقيمون مواسمهم (الهيلولا)… وهناك اليوم حركة دؤوبة في المغرب تتعلق بتجديد مختلف أماكن العبادة اليهودية، كما أن فعاليات يهودية ومسلمة تسهر اليوم على إخراج علاقة مسلم/يهودي (بالمغرب) من دائرة التوتر.

هل عانى اليهود نظرة تحقيرية من قبل المغاربة يمكن أن نلمسها في عبارات مثل «اليهودي حاشاك» أو «سحت اليهود»…؟
 أشكال التعبير بمثل ما تفضلتم بذكره أمر عاد، لكن لنتساءل قبل ذلك عن النعوت والصفات القدحية التي يرمي بها المغاربة بعضهم ببعض، إما حسب الجهات، أو حسب اللغات، بل حتى اللون والسحنة. ألم نسمع يوما، وأعتذر عن العبارة، “لمرا حاشاك”؟؟؟ في هذا الإطار، أفهم ما عبرت عنه ب”تحقير”، هو لحظة  توتر وغضب، بين مكونات المجموعة نفسها، ولا أعتقد أن الأمر وجودي، لا عند المسلم ولا عند اليهودي. هناك ألفاظ وعبارات يستعملها أيضا اليهود للرد على من حقرهم وعيرهم، إن قاموسهم غني أيضا.
لكن أعود وأقول إن الصورة العامة لعلاقة يهودي/مسلم، لا تعطي أي إحساس بأن أحدهما “براني” عن الآخر، وإلا لما استمر العيش المشترك طيلة قرون.

  في أي إطار يمكن تصنيف تجمعهم في إطار ما يعرف تاريخيا ب”الملاح”؟ ألا يعتبر ذلك نوعا من “الغيتوهات”؟
 على المستوى التاريخي، أشير إلى أن بداية “الملاح” لا علاقة لها باليهود، بل أسس جزءا من الحي الإداري الذي بناه المرينيون تحت مسمى المدينة البيضاء (فاس الجديد)، والحي الذي يسمى “ملاح” فاس كان في الأصل عبارة عن مقر “للكتبة العسكرية المسيحية”، بعد إفراغها استقر بها المسلمون، ولم ينتقل يهود فاس إلى “الملاح” إلا في 1438 بعد اكتشاف ضريح ادريس الثاني وحرمة مجاله على اليهود. ويجب التنبيه إلى أن هذه الصيغة في إخراج اليهود من هذا المجال كانت في عمقها صراعا اقتصاديا حول القيسارية. لقد أخذ انتقال اليهود حيزا زمنيا طويلا قبل أن يصبح حيا خاصا باليهود.
 وبعيدا عن الصورة البئيسة ل”الملاح”، التي نقلتها “الإسطـــــــــــوغرافيا” الاستعماريــــــــــة والكتابات الصهيونية التحريضية، أنشأ السعديون “ملاحا” بمـراكش خاصا باليهود لاعتبارات اقتصادية وسياسية، حيث كـــــــــان مركزا لاستقبال الدبلـــــــــــــــــــــــوماسيين الأجانب، وتشير كل الكتـــــــــابات إلــــى جماليته ونظافته. ومن الخطأ الفادح مقارنة “الملاح” المغربي ب”الغيتوهات” الأوربية. إن هذا الربط إهانة لتاريخ العيش المشترك بين المغاربة يهودا ومسلمين.
أما لماذا ارتضى اليهود العيش في “الملاح”، فهو أمر يرتبط بالخصوصية الدينية، إذ أن الصلاة لا تتم إلا جماعة وتحتاج إلى 12 نفرا ذكرا بالغا، وهو الحق الذي حفظه المغرب ليهوده.
 فعلا، تدهورت وضعية “ملاحات” المغرب خلال القرن التاسع عشر بفعل الاكتظاظ الناتج عن نزوح كثير منهم من الأرياف والحواضر الصغرى رغبة في الرقي الاجتماعي، وهو ما انعكس سلبا على حياتهم. لكن هل تساءلنا عن وضعية أكثر من 95 في المائة من المغاربة الآخرين وما إذا كانت أحسن من وضعية اليهود؟ هذا هو السؤال الحقيقي.

هل يمكن القول إن المغاربة عنصريون تجاه اليهود وإن «التسامح» الذي يتكلم عنه البعض مجرد وهم ولا أساس له من الصحة؟
المسألة نسبية جدا، ولا يمكن الحكم بهذه الإطلاقية، فمسألة العنصرية في أوربا لا تحمل المعاني نفسها الموجودة في العقل الشرقي.
المغرب له مفاهيمه التي أنتجها تاريخه، وأنا لا أسعى إلى تعميم القيم الحالية على لحظات تاريخية سابقة، بل أحاول فهم الحدث في لحظته وبموازين وقته، لهذا أدرج ما تشيرين إليه ضمن التراتبية الاجتماعية وتوزيع الأدوار، حيث كان الجميع يقبل بوضعه ويعتبره قضاء الله وقدره.
وحتى نزيل وهم العنصرية، أشير الى أن عددا كبيرا من اليهود ارتقوا إلى أعلى المناصب السياسية والدبلوماسية والتجارية، بل لا يمكن أن لا تجديهم في المحيط السلطاني. وهو أمر ما زال قائما، ويكفي أن نذكر موقع أندري أزولاي في هرمية  الدولة والمسؤوليات التي يتحملها وقبول كل المجتمع به لدحض هذا الوهم العنصري. كما أن كل الأحزاب السياسية انتخبت بعضا منهم في هيآتها القيادية، وآخرهم المرحوم شمعون ليفي، كما أن سيون أسيدون من أبرز الوجوه التي تقود معركة المقاطعة ضد إسرائيل، دون الحديث عن النخب الاقتصادية والثقافية اليهودية.
أما على المستوى الشعبي، فتحفظ ذاكرة المغاربة حسن الجوار الذي ساد بين اليهود والمسلمين، وكانت الأعياد لحظة قوية لتبادل الهدايا بينهم، وما زال كثير من المغاربة يتحسر على تلك اللحظات، ويبدو أنه الشعور نفسه حتى عند من غادر المغرب من اليهود، وتكفي نقرة في بعض المواقع لملاحظة استمرار الحفاظ على كثير من “التمغريبيت” فيها، ولا أعتقد أن الأمر مرتبط ب “الحنين” فقط، بل هو أعمق من ذلك.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*